ليس لدى نصائح أثق أنها مهمة اسلمها لك فى مظروف ولكن لدى عمر
طويل فى هذا المجال قد أجد به شىء أخبرك به.
عندما تخرجت عام 1988 لم تكن لدى أى فكرة عما سأمتهنه فى حياتى،
هل سأكون مهندس ديكور أم رسامًا كما أحلم، مهندس ديكور لأنى تخرجت من قسم الديكور
وحصلت على امتياز فى مشروع تخرجى، أعطيت لنفسى هذا التقدير الأكاديمى كدليل أننى
قد أصنع فارق فى هذا المجال، أو رسام لأن هذا هو شغفى الحقيقى.
ولكن قبل أن أنهى خدمتى العسكرية بخمسة أيام وجدت إعلان فى جريدة
الأهرام لشركة تطلب مصمم جرافيك ومواعيد المقابلة يومية فى مقر الشركة، لم يكن لدى CV فى
هذه اللحظة ولكن كانت لدى بعض من رسوماتى وصور مشروع تخرجى فى علبة من الورق
المقوى بنفس مقاس الأوراق والرسوم بداخلها، صنعتها بعناية ورسمت عليها من الخارج
بالأحبار.
ذهبت إلى المقابلة بدافع الشغف والحصول على أى انطباع، وكما هو
متعارف فى هذه المقابلات أسئلة كثيرة لتقييم معلوماتى الخاصة بصناعة الجرافيك
والطباعة، والإجابة من طرفى تأتى بالجهل التام بهذه الحرفة، ولكن الغريب انتهاء
المقابلة بحصولى على العمل والبدء فى اليوم التالى، لم أعرف لو كانت لدى بعض
المعلومات البسيطة ماذا ستكون النتيجة.
بعد أن حصلت على العمل بفترة قصيرة جمعتنى صداقة بصاحب الشركة، سألته
مباشرة لماذا قمت بتعيينى قبل أن تنتهى المقابلة رغم أنى لم أجب عن سؤال واحد من
الأسئلة، فكانت الإجابة: "لأن العلبة التى كانت تحمل أعمالك مصنوعة بعناية
فائقة تؤكد أنك تعرف أكثر مما تتخيل".
...
اشترى صديق لى أول جهاز كمبيوتر خاص به لينفذ عليه تصميماته بعد
أن كان يستخدم الآير برش والأدوات التقليدية، واحتفالاً بهذه المناسبة رجعنا معه
أنا وآخرين اللى بيته حاملين الجهاز، وصلنا وأخرجناه من علبته وأدارنا الجهاز
وبدأنا فى اللعب واكتشاف إمكانياته، سأله حازم: "بكام الجهاز ده يا نبيل؟"..
فأجاب: "بـ ١٦ ألف جنيه".. كان هذا رقم ضخم فى أوائل التسعينيات، فأجاب حازم:
"يا بلاش" وأكمل كلامه فى محاولة للتبرير عندما لاحظ نظرات التعجب على
وجوهنا، "أنت عارف الجهاز ده فيه ورق وأقلام وألوان ما بتخلصش.. طبعًا يا
بلاش"، رغم سذاجة الفكرة أو بساطتها إلا أننى وجدتها عبقرية، ليس من الضرورى
على الإطلاق أن تخرج التصميمات من على هذه الأداة بشكل إلكترونى.
...
جلس بجوارى أحد أصحاب الشركات التى عملت بها لتصميم مطبوع
(بروشور) وكنت ومازلت أنفذ التصميمات بسرعة شديدة، وعندما شعر بهذه السرعة سألنى: "أنت
كنت مفكر فى التصميم ولا فكرت فيه إمتى؟.. فأجبت: "أنا ما بفكرش، غالبًا بأثق
فى حدسى الفنى ومخزونى البصرى".
...
فى عام 1993 عملت مع مصمم فرنسى جاء واستقر فى القاهرة حتى هذا
اليوم، عمل بفرنسا كمدير فنى لأحد المجلات، تعلمت منه شيئان أعتقد أنهما فى غاية
الأهمية بالنسبة لى، الأول: ألا يتعدى عرض الفقرة الواحدة ١٤ سنتيمتر، وإذا تعدى
فيجب تقسيمها على عمودين، فالقراءة تكون مزعجة جدًا عندما يزيد عرض الأسطر.
والشىء الآخر: ألا استخدم فونطات Fonts
لها شخصية أو تصميم مميز فى الكتل الكبيرة من الكتابة Body
text لأن العين اعتادت على فونطات الصحف والمجلات، ولا
يمكن قراءة مقال طويل بأحد الفونطات الحديثة.
...
عملت فترة مع مهندس معمارى، كان التنسيق Alignment
أهم عنده من شكل التصميم، لا يستطيع أن يرى تصميم دون تنسيق واضح والحقيقة أن هذا
التنسيق المبالغ فيه ساعدنى كثيرًا فى رفع كثيرًا من العبء عن حدسى الفنى.
...
لم يعمل لدى طوال عشرين عام مصمم موهوب يشعر أنه على يقين من أن
ما صنعه أعظم نتيجة وأن أى إضافة أو تعديل سيحولها إلى شىء آخر، أغلب الموهوبين
كانوا يبحثون عن المنطقة المريحة بينهم وبين صاحب العمل (العميل).
...
لم أر سيرة ذاتية أو كارت شخصى مزركش أو مصمم بالألوان أو أيقونات
لمصمم موهوب، المصممين الجيدين غالبًا ما تكون سيرتهم الذاتية وكروتهم الشخصية
بسيطة لا تحمل أى انطباع فنى فج.
...
صنعت أشياء قبيحة كثيرة جدًا أخجل من أن يراها أحد فى محاولة لإرضاء
صاحب العمل (العميل) والعجيب أنها كانت تلاقى فى النهاية إعجابه وإعجاب آخرين، وفى
بعض الحالات جاء نتيجة هذه الأعمال عملاء آخرين لتزداد دائرة القبح، تهذيب العميل ليس
فكرى أو منهجى، فهناك عقد ضمنى بيننا أصنع له ما يريد مقابل ما أريد، كان الحل
الوحيد هو اختيار من أعمل معه وليس تهذيبه.
...
لم أفهم أبدًا مصطلح "فكر خارج الصندوق Think out of the box"،
هناك دائمًا صندوق.. الكوكب فى حد ذاته صندوق.. وظيفة التصميم
واستخدامه صندوق، وإذا كان المقصود بالصندوق هو طريقة تفكير العامة، فما الذى جعلك
منهم؟ وما الذى سيخرجك من بينهم؟
...
كنت صبور جدًا ولازلت، ليس بنفس القدر ولكنى صبور.. فى السنوات
الأولى لى كان كل شىء يتم يدويًا فى وقت طويل وبأساليب بدائية والغلطة أو التعديل
يكلفك إهدار العمل وقتها والبدء من الصفر، وقد يحدث هذا فى عمل واحد أكثر من مرة،
وعندما دخل الكمبيوتر حياتنا تخيلت أن الملولين (من يشعرون بالملل سريعًا) قد يستطيعوا
امتهان هذه المهنة بفضل الأداة الجديدة، ولكنى اكتشفت خطأى بعدما أهدرت ملف كبير
لمجلة استغرقت منى شهر فى صنعها لسبب تقنى وكان على أن أبدأ من جديد.
...
لم أذم أبدًا فى تصميم صنعه عميل مع مصمم آخر، ليس أدبًا أو
تهذبًا منى، ولكنى لا أحب أبدًا إعطاء الوعود حتى لو وعد ضمنى بأنى قادر على صناعة
ما هو أفضل.
...
لم أفهم أبداً التسعير فى هذه المهنة، وخاصة التسعير المبنى على
المقاس لأنى غالبًا ما أنسى مقاس الملف على الكمبيوتر بعد أن أنشئه.
...
العامة فى هذا البلد لا يستطيعون التمييز بين التصميم الجيد والطباعة
الجيدة، مما جعل معرفة التقنيات واللوجيستيات الخاصة بالطباعة والتصنيع شىء حتمى
وليس أحد أنواع التجويد أو الرفاهية.
...
وأخيرًا… ليس
للمزاج الشخصى علاقة بما ينفذ من تصميم، فكم من أعمال فنية راقية خرجت من أشخاص
تعساء، وليس للأجر دخل بشكل المنتج النهائى.. فالشكل النهائى غالبًا ما يحدده شغفى
أكثر من ديونى.